كتبة عزة الحاج حسن في المدن:
في وقت تحتجز فيه المصارف أموال مودعيها وتحرم الموظفين من الاستحصال على كامل رواتبهم ومداخيلهم الشهرية، وتقنّن السحوبات وتقتطع على كافة العمليات المصرفية عمولات وخوّات، تفرد يديها للجسم القضائي وتغدق على القضاة كرمها، فتبادر “تحسّساً” منها ومن راعيها مصرف لبنان بأوضاعهم المعيشية الصعبة، فتقرر صرف رواتبهم بعملتها المُبتكرة “لولار” أي وفق سعر صرف 8000 ليرة ومن ثم إلى صيرفة.
ماذا يعني ذلك؟ يعني أن رواتب القضاة سيتم مضاعفتها بنحو 6 أضعاف بالحد الأدنى.
قرار مصرفي
تردّدت معلومات عن قرار مصرفي اتخذته المصارف، بإيعاز من مصرف لبنان، يقضي بتحويل رواتب القضاة من السعر الرسمي 1500 ليرة للدولار إلى سعر صرف دولار 8 آلاف ليرة. وقد بادرت المصارف إلى تطبيق القرار تباعاً، على أن يشمل كلّ القضاة في غضون نهاية الشهر المقبل. تلك المعلومات وإن لم يتم تأكيدها وإعلانها جهاراً من مصرف لبنان، غير أن أكثر من قاض أكدها باعتبارها جزءاً من تعويض عما خسروه من قيمة رواتبهم.
القرار المصرفي خصّ الجسم القضائي دون غيره بتلك الآلية لتقاضي الرواتب، ضارباً عرض الحائط مسألة المساواة بين المواطنين، ومتجاهلاً في الوقت عينه الإضراب المفتوح الذي ينفّذه موظفو القطاع العام، وهم زملاء للقضاة وإن بغير مسمّيات. فلا يُفهم من مبادرة المصارف ومصرف لبنان سوى تقديمهم رشى للقضاة، في مرحلة تستلزم قضاء نزيهاً غير مُرتهن ولا ممنوناً للمصارف وحاكمها.
مضاعفة الرواتب
من المتوقع أن تتضاعف رواتب القضاة من خلال تلك العملية المصرفية بنحو 6 أضعاف، وإذا أخذنا مثالاً راتب قاض بـ6 ملايين ليرة حالياً، فإنه يُحتسب بالدولار على سعر الصرف الرسمي 1500 ليرة أي نحو 4000 دولار، فيتم سحبها وفق سعر الدولار المصرفي (اللولار) 8000 ليرة فيصبح راتب القاضي نحو 32 مليون ليرة. وهنا يعود للقاضي خيار سحب راتبه بقيمة 32 مليون ليرة أو سحب راتبه بالدولار الأميركي تطبيقاً للتعميم 161 ووفق سعر منصة صيرفة (حالياً 25400 ليرة للدولار) وبذلك يصبح الراتب 1259 دولاراً “فريش”، أي ما قيمته نحو 36 مليون و800 ألف ليرة (باحتساب سعر صرف الدولار 29300 ليرة).
وبهذه العملية يكون راتب القاضي قد ارتفع من 6 ملايين ليرة إلى 36 مليون و800 ألف ليرة بعملية مصرفية بسيطة، لكن مفعولها كبير واستراتيجي. فالمصارف تحاول شراء القضاة وضمان عدم وقوفهم بوجهها في المرحلة المقبلة، التي تستلزم قضاء صارماً وشفافاً لمواجهة خطط المصارف بتحميل المودعين الثقل الأكبر من الخسائر.
مواجهة القرار
القرار المُجتزأ الذي خصّت فيه المصارف ومصرف لبنان القضاة فقط دون سواهم من فئات القطاع العام، وفي ظل غياب تام لأي خطة تصحيحية شاملة للأجور أو خطة اقتصادية، لا يبدو أنه سيمر من دون مواجهة. فالقضاة وإن كانوا يستحقون من دون شك تصحيح أجورهم التي فقدت قدرتها الشرائية، لكن كيف يمكنهم تمرير قرار مخالف لأكثر القواعد القانونية والمبادئ بديهية، ألا وهي مبدأ المساواة؟ وماذا عن زملائهم في القطاع العام الذين انحدروا إلى خط الفقر؟
القرار وإن لم يُعلن رسمياً حتى اللحظة، غير أن انتقادات كثيرة وُجهت إليه من قبل العديد من المحامين، ومنهم المحامي رفيق غريزي، وهو أحد محامي جمعية ريفورم (المختصة بتطوير وإصلاح التشريعات والنظم القانونية في لبنان)، الذي وصف قرار مصرف لبنان والمصارف في حديث إلى “المدن” بـ”الرشوة”. وهي مخالفة لمبدأ المساواة بين جميع الأفراد المنضوين تحت لواء المؤسسات العامة والمرافق العامة، متسائلاً: ألا يُعد قبول القضاة بقرار المصارف اعترافاً بسعر اللولار رسمياً؟ ألا يُعتبر القضاة الذي سيشترون الدولار على سعر الصرف الرسمي 1500 ليرة ويبيعونه باللولار 8000 ليرة (حسب عرض المصارف) مساهمين وشركاء بشكل أو بآخر بالإستيلاء على أموال المودعين؟ والسؤال الأهم كيف سيتمكن القضاة من محاسبة المسؤولين من مصرفيين وسياسيين في حال قبولهم بهذه الرشوة؟
وقد علمت “المدن” أن إرباكاً وسجالات وقعت بين القضاة على خلفية قرار المصارف. ومنهم مَن أعلن رفضه المسبق للاستفادة من القرار، فيما رحّب البعض الآخر باعتبار أن من حق القضاة تحسين رواتبهم التي فقدت قيمتها، متجاهلين عدم المساواة مع باقي الفئات من موظفي القطاع العام، وحتى مع باقي الفئات في الجسم القضائي نفسه، أي مع المساعدين القضائيين الذين لم يشملهم قرار المصارف.
وكان وزير العمل في حكومة تصريف الأعمال مصطفى بيرم قد انتقد قرار المصارف، مع تأكيده على أن تصحيح الوضع المالي للقضاة هو منطق وحق، لكنه انتقد كيفية تصرف حاكم مصرف لبنان بانتقائية غير مدروسة وارتجالية، في محاولة إنصاف قطاع أو مرفق وتجاهل قطاعات اخرى. وفي الحالتين، تغيب الرؤية الصحيحة والعلمية، يقول بيرم. كما تغيب فجأة عن بال المصارف وحاكم “المركزي” فكرة خطورة ضخ الأموال والتضخم في الكتلة النقدية. وهي الحجج التي نسمعها في إطار مطالباتنا المتكررة لحقوق الموظفين.
وإذ لفت بيرم إلى الفوضى في إدارة الأزمات، دعا إلى إدارة صحيحة تجمع بين العلمية والإنصاف للموظفين في القطاع العام بمختلف مسمياتهم، بالتوازي مع تسيير مصالح الناس والمرافق العامة وعدم ضرب واردات الدولة.